• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الدعوة إلى الطاعة والدخول فى البيعة

ولم يكن الحسن بن عليّ(عليهما السلام) يقرّ له قرار حتّى يجمع شتات الاُمة التي فرّقتها الأهواء، وكان معاوية مارقاً عن دولة أبيه مقاتلاً إيّاه، وهو اليوم يريد أن يحكم عقد طاعة الجميع أتباعه وأعدائه، فكان الحسن بن عليّ(عليهما السلام) شديداً يبطش بأعدائه ليرهبهم عمّا هم عاقدون العزم عليه من الفرقة والخروج عن الطاعة.
ولم يكن معاوية في حسابات الحسن(عليه السلام) الخليفة الجديد إلاّ صعلوكاً قد فرّ بغوغاء أهل الشام عن طاعة الخلافة، ولم يتح الحسن بن عليّ(عليهما السلام) لمعاوية التفكير في أن يستقلّ بإمارته ويتمادى بغيّه اعتماداً على ما خلّفته حروب صفين، معاوية ظنّ بغير بصيرة، أنّ الحسن(عليه السلام) سيعيد ذاكرة صفين إلى أذهان أهل العراق وإلى ذاكرته المليئة بالأيام الحرجة من منازلة اللقاء يوم كانت الفئتان تلتقيان فيتهاوى القتلى من الفريقين، ليقفل معاوية بخسارته إلى الشام، ثُمّ يعيد الكرّة مرة بعد اُخرى ليشاغل عليّاً(عليه السلام) عن مهامّه، ثم إذا ما وجد شغباً آخر كيوم الجمل أو كفوضى النهروان، يتربص حيناً، ثم يعيد شغبه بعد ذلك.
هكذا كان معاوية الوالي المتمرّد مع عليّ(عليه السلام) الخليفة والإمام، ويريد معاوية اليوم أن يعيد شغبه مع الخليفة الجديد، فالحسن(عليه السلام) لا يثنيه ما تطويه سريرةُ معاوية من التآمر والخديعة مرة، ومن المكر والدسيسة اُخرى.
كان الحسن بن عليّ(عليهما السلام) عازماً اليوم على أن يُدخل معاوية المتمرد في طاعته فإن أذعن فقد فاء إلى الحق، وإن أبى فقد ناجزه الحرب، ليدخله في بيعته طوعاً أو كرهاً. فكتب إليه كتاباً هذا نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله الحسن أمير المؤمنين إلى معاوية ابن أبي سفيان.

سلام عليك
فإنّي أحمد الله الذي لا إله إلاّ هو...

أمّا بعد....

فإنّ الله تعالى عزّوجلّ بعث محمّداً (صلى الله عليه و آله وسلم) رحمة للعالمين، ومنّة على المؤمنين، وكافّة إلى الناس أجمعين {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} فبلّغ رسالات الله، وقام على أمر الله حتّى توفّاه الله غير مقصّر ولا وان، حتّى أظهر الله بـه الحـق، ومحـق بـه الشرك،
ونصر به المؤمنين، وأعزّ به العرب، وشرّف به قريشاً خاصة،
فقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} فلمّا توفّي (صلى الله عليه و آله وسلم) تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته واُسرته وأولياؤه،
ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمّد في الناس حقّه، فرأت العرب أنّ القول كما قالت قريش، وأنّ الحجّة لهم في ذلك على من نازعهم أمر محمّد (صلى الله عليه و آله وسلم)  فأنعمت(1) لهم العرب وسلّمت ذلك، ثمّ حاججنا نحن قريش بمثل ما حاجّت به العرب، فلم تنصفنا قريش انصاف العرب لها، إنّهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالانتصاف والاحتجاج، فلما صرنا أهل بيت محمّد وأوليائه
إلى محاجّتهم، وطلب النصف منهم باعدونا، واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا، والعنت منهم لنا، فالموعد الله، وهو الولي النصير.
وقد تعجّبنا لتوثّب المتوثّبين علينا في حقّنا، وسلطان نبيّنا (صلى الله عليه و آله وسلم) وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام، فأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب بذلك مغمزاً يثلمونه به، أو يكون لهم بذلك سبب لما أرادوا به من فساده، فاليوم فليعجب المتعجّب من توثّبك يامعاويـة، على أمــر لست مـن أهلـه،
لا بفضل في الدين معروف، ولا أثر في الإسلام محمود، وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش لرسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، ولكن الله خيّبك، وستردّ، فتعلم لمن عقبى الدار، تالله لتلقين عن قليل ربّك، ثم ليجزينّك بما قدّمت يداك، وما الله بظلاّم للعبيد.
إنّ عليّاً ـ رضوان الله عليه ـ  لما مضى لسبيله، رحمة الله عليه يوم قبض، ويوم منّ الله عليه بالإسلام، ويوم يبعث حيّاً،
ولاّني المسلمون الأمر بعده، فأسأل الله أن لا يزيدنا في الدنيا
الزائلة شيئاً ينقصنا به في الآخرة ممّا عنده من كرامته، وإنّما حملني على الكتاب إليك، الاعذار فيما بيني وبين الله سبحانه وتعالى في أمرك، ولك في ذلك إن فعلت الحظّ الجسيم، وللمسلمين فيه صلاح، فدع التمادي في الباطل وادخل فيما دخل فيه الناس
من بيعتي، فإنك تعلم أنّي أحقّ بهذا الأمر منك عند الله وعند
كل أوّاب حفيظ، ومن له قلب منيب، واتّق الله ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، فو الله ما لك من خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر ممّا أنت لاقيه به، فادخل في السلم والطاعة، ولا تنازع الأمر أهله، ومن هو أحقّ به منك، ليطفئ الله النائرة(2) بذلك، وتجمع الكلمة، وتصلح ذات البين، وإن أنـت أبيـت إلاّ التمـادي في غيـّـك
نهدت(3) إليك بالمسلمين، فحاكمتك حتّى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين(4) .
ولم يكن الكتاب الذي بعثه الإمام الحسن سوى إعادة قراءة تاريخ، وإعادة قراءة مواقف مرتجلة ارتكبها الأول ليدفع ثمنها القادمون.
يا تعس اُولئك الذين أخطأوا حظّهم في وصية الرسول فقرأوها على أنها وراثة أهلٍ، وحبوة قرابة.
ويا تعس هؤلاء الذين قرأوا وصية نبيّهم (صلى الله عليه و آله وسلم) بأعين غيرهم، ليرجعوها قبائلية تتعاضد فيها القبيلة مع قبَليّتها، وتتحالف الجاهلية بعصبيتها.
كان الإمام الحسن(عليه السلام) يقرأ تاريخ رسالة ومن ثَمّ تاريخ اُمّة، فكان جدّه المصطفى مبعوثاً رحمة للعالمين، وقد أظهر الله به الحقّ ومحق به الباطل، فلم يكن سلطانه سلطان دولة بقدر ما هو سلطان هداية، أي لم تكن خلافته إرثاً قبائلياً، تستحقه قبيلة دون قبيلة، أو يرثه حلفٌ دون آخر، فلا حجّة للعرب على غيرها في سلطانه، ولا حقّ للأنصار دون المهاجرين في إرثه، ولا حبوة لقريش على غيرها من المهاجـرين دون المـهاجـرين، أو الأنصـار دون الأنصـار، فالإرث فوق هذا وبعد كل هذا، إرث إلهيّ خالص وتراث سماوي مصون عن أغيرة الأرض القاحلة، عن كل رشد غير رشد القبيلة المتسلطة على العقلية بكل عنوفة الجاهلية وشغبها وتمرداتها على فطرة الإنسان التي تعامل معها محمّد النبيّ والقائد والإنسان.
هكذا أراد النبيّ (صلى الله عليه و آله وسلم)  أن يوحي للفطرة أن تتحرّر من عقال العصبية، وتناجز الإنسانية قبائليتها «المخزونة» أو قُل «المذخورة» في تجاويف النفس غير المتحررة من تباغضها وتحاسدها، لتعيش هي دون الآخرين، ولتُحيي ذاتها دون المبدأ الذي تلبّست به في الظاهر، إلاّ أنها تأتزرُ بموروث القبيلة، وتلتحف بتقاليدها، ولم يكن الدين الجديد الذي «اُقحمت» به إلاّ ممارسةً سياسية تمارسها نزاعات الزعامة والسطوة لدى ذلك الإنسان غير المتحرر من نزعاته الاُولى.
فالبداوة لا زالت تزجّهُ في متاهات التحزّب للقبيلة، وغبار الجزيرة يكتسح أحياناً بعواصفه العاتية كل جديد تؤسّسه الرسالة الجديدة، فهي الآن بعد مرور ثلاث عقود من إسلامها تشحذ مُدى العصبية، لتجاهد تلك القيم التي سعى النبيّ (صلى الله عليه و آله وسلم)  لتأسيسها وتركيزها، ومن ثم هي تغتال تلك القيم لتنتزي على كل ما أوصى به النبيّ (صلى الله عليه و آله وسلم)، محتجّة بأن العرب أحقّ من غيرها في نبيّها، وأنّ قريشاً أولى من العرب لانتمائها، وأنّ المهاجرين أحفى من الأنصار لقربها.
ومن ثَمّ فإنّ آله وحامته وخاصته رعايا غير مشمولين بهذه المخاصمة، وغير داخلين في هذه الحجّة، فالحجّة للقبلية على القبلية، والمخاصمة للعصبية على العصبية، وأهل البيت تنبذهم تيارات التحزّب وقوى التحالفات المختلفة - المتفقة، فهي متصارعة على السلطان إلاّ أنّها متهادنة فيما بينها على إبعاد سلطان محمّد عن آله ووصايته.
وإذا احتجّ اُولئك المتدافعون بالقرب والسابقة، فما بال اُولئك الطلقاء ينازعون إرثاً غير إرثهم، فينتحل الأدعياء إرث غيرهم، ويتمرّد العبيد عن ربقة أسيادهم، فيأبقون عن كل قيم أذعنتهم القوة حين فتح الله لنبيّه (صلى الله عليه و آله وسلم)، ويتمردون على كل مبدأ أخضعهم السيف لقبولـه، ويناجزون أهل هذا البيت لينتزعوا عنهم بردة أتحفهم الله لهم، ويتجاذبوا أطراف رداء الخلافة التي لا يليق إلاّ بهم...
فالعجب كل العجب من توثب هؤلاء المدعين .... وأنت منهم يامعاوية، فخليقٌ بك السيف الذي يردّك مواضع الرعية، ويناجزك كما ناجز أهل الأحزاب ذوي الفضل والدين. وسيحكم الله وهو خير الحاكمين. هذا لسان حال الحسن بن عليّ(عليهما السلام)، ولسان حال التاريخ مستنطقاً من هفوات الأحداثِ الغابرة.

جواب معاوية

ولم يكد يصل الكتاب حتّى اهتزّ معاوية لما أتاه من توعّد وتهديد أنذره بيوم البطشة التي عهدها عن عليّ(عليه السلام) أيام صفين، فأجابه بما يظهر معه تماديه في غيّه ونفاقه في قراءة الأحداث التي نفذ من خلالها هو وأمثاله من أبناء الطلقاء، زاعمين بذلك أنّ لهم الإمرة والسلطان. فكتب إلى الإمام:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله أمير المؤمنين إلى الحسن بن عليّ.

سلام عليك.

فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد:

فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت به رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) من الفضل وهو أحقّ الأولين والآخرين بالفضل كلّه، قديمه وحديثه، وصغيره وكبيره، فقد والله بلّغ فأدّى، ونصح وهدى، حتّى أنقذ الله به من التهلكة، وأنار به من العمى، وهدى به من الضلالة، فجزاه الله أفضل ما جزى نبيّاً عن اُمته، وصلوات الله عليه يوم ولد، ويوم قبض، ويوم يبعث حيّاً.
وذكرت وفاة النبيّ (صلى الله عليه و آله وسلم)، وتنازع المسلمين من بعده، فرأيتك صرّحت بتهمة أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وأبي عبيدة الأمين، وحواري الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم)، وصلحاء المهاجرين والأنصار، فكرهت ذلك لك، فإنك امرؤ عندنا وعند الناس غير ظنين، ولا المسيء ولا اللئيم، وأنا أحبّ لك القول السديد والذكر الجميل.
إنّ هذه الاُمة لمّا اختلفت بعد نبيّها لم تجهل فضلكم، ولا سابقتكم، ولا قرابتكم من النبيّ (صلى الله عليه و آله وسلم)، ولا مكانتكم في الإسلام وأهله، فرأت الاُمة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانها من نبيّها، ورأى صلحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس وعامتهم، أن يولوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلاماً، وأعلمها بالله، وأحبها له، وأقواها على أمر الله، واختاروا أبا بكر، وكان ذلك رأي ذوي الحجى والدين والفضيلة والناظرين للاُمة، فأوقع ذلك في صدوركم لهم التهمة، ولم يكونوا بمتهمين، و لا فيما أتوا بمخطئين، ولو رأى المسلمون فيكم من يغني غناءه، أو يقوم مقامه، أو يذبّ عن حريم المسلمين ذبّه، ما عدلوا بذلك الأمر إلى غيره رغبته عنه، ولكنهم عملوا في ذلك بما رأوه صلاحاً للإسلام وأهله، فالله يجزيهم عن الإسلام وأهله خيراً.
وقد فهمت الذي دعوتني إليه من الصلح، والحال فيما بيني وبينك اليوم مثل الحال التي كـنـتـم عليـها أنـتـم وأبو بكر بعد النبيّ (صلى الله عليه و آله وسلم) ولو علمت أنك أضبط مني للرعية، وأحوط على هذه الاُمة، وأحسن سياسة، وأقوى على جمع الأموال، وأكْيَد للعدو، لأجبتك إلى ما دعوتني إليه ورأيتك لذلك أهلاً، ولكني قد علمت أني أطول منك ولاية، وأقدم منك لهذه الاُمة تجربة، وأكثر منك سياسة، وأكبر منك سنّاً، فأنت أحقّ أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني، فادخل في طاعتي ولك الأمر من بعدي، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغاً ما بلغ تحمله إلى حيث أحببت، ولك خراج أي كور العراق شئت، معونة لك على نفقتك، يجبيها لك أمينك، ويحملها إليك في كل سنة، ولك ألاّ يستولى عليك بالإساءة ولا تقضى دونك الاُمور، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله عزّ وجلّ، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء، والسلام(5).
___________________
(1) أي قالت لهم: نعم.
(2) النائرة: العداوة والبغضاء.
(3) نهد إليه: ارتفع.
(4) مقاتل الطالبيين: 64.
(5) مقاتل الطالبيين: 66.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page