لم يزل معاوية مرهوباً منذ أن وقع كتاب الإمام الحسن(عليه السلام) بين يديه... فقد أعاد الكتاب أيام عليّ(عليه السلام) وهو يتربص لابن أبي سفيان، ويحاججه بكتاب الله وسنّة رسوله، فإن لم يفء خاصمه بالسيف... وقد ظنّ معاوية أنّ الأمر قد انتهى برحيل عليّ(عليه السلام).. فإذا هو يتجدّد بخلافة الحسن بن عليّ(عليهما السلام) يطالبه بأن يفيء إلى أمر الله... إلى خلافته وإمامته... معاوية بن أبي سفيان محجوج اليوم بالحقّ... والحسن بن عليّ(عليهما السلام) «محجوج» بكل خديعة وحيلة يرتكبها ابن أبي سفيان .... لم يستطع معاوية إذن أن يحاجج الحسن(عليه السلام)، فإن بينهما كتاب الله وسنّة رسوله... ولم يستطع الحسن(عليه السلام) أن ينازع معاوية بما ينازعه هو من المكر والخديعة.... فالحسن بن عليّ(عليهما السلام) من بيوتٍ أذهب الله عنهم الرجس، كالمكر والغيلة والخديعة والكذب والحيلة، فأذهب الله عنه ذلك، وطهّره ورفعه إلى مقامات الأنبياء وأبناء الأنبياء... وابن أبي سفيان لا حيلة عنده إلاّ السيف مع الغيلة.... والغدر مع المكيدة ..... والدهاء عند اعتوار الحجة والتباسها على طغام الناس وسفلتهم... وعند رعاع الكثرة وغوغائهم...
إذن فليستعن بما لديه من هذه ومن هؤلاء .... من الطيش والخديعة، ومن الرعاع والغوغاء .... فقد نفد كلّ ما لديه ولم يبقَ إلاّ أن يوعز إلى أقرانه من أهل المصالح والأهواء ليستنفروا همجهم، ولتنحدر نفس الجموع التي كانت تنحدر إلى صفين أيام الإمام عليّ(عليه السلام)، لتهرع اليوم بكل صخبها إلى خليفته الحسن الذي سيواجه نفس المصير من انثيال همج الشام وطغامهم، إلى حيث يدفعهم غي البغي والخسران، وإلى نكوص غوغاء الكوفة وهمجهم إلى حيث يستهويهم العناد والخذلان... وإذا كان الأمر كذلك، فليوحِ معاوية إلى عمّاله يستحثّهم على الخروج إلى العراق... أي الحسن بن عليّ(عليهما السلام) فإنّها الجولة الحاسمة التي ستقرّر مصير معاوية معززاً ذلك بدسائسه وغِيَله، فكتب إلى عمّاله نسخة واحدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من معاوية أمير المؤمنين، إلى فلان بن فلان ومن قبله من المسلمين.
سلام عليكم.
فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد: فالحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوكم وقتلة خليفتكم، إنّ الله بلطفه وحسن صنعه أتاح لعليّ بن أبي طالب رجلاً من عباده، فاغتاله فقتله، فترك أصحابه متفرقين مختلفين، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم، فأقبلوا إليّ حين يأتيكم كتابي هذا بجندكم وجهدكم وحسن عدّتكم، فقد أصبتم بحمد الله الثأر وبلغتم الأمل، وأهلك الله أهل البغي والعدوان، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(1) .
هذه هي مراسلات معاوية، تزوير حقائق، وإمعانٌ في معاندة الواقع.... يتبعها صخب وتهريج لرعاع ترتبط مصالحهم بمثل هذه المناورات الطائشة والرهانات الخاسرة.... ولا ننسى أنّ معاوية عليه عهد ـ أبي سفيان ـ ليملأنّها خيلاً ورجالاً على آل عليّ(عليه السلام)، كما كان أبو سفيان يرفع عقيرته إبّان السقيفة: ليملأنّها خيلاً ورجالاً على تيم وعدي، فوفى معاوية بما عاهد، وأخلف أبو سفيان بما هدّد وواعد... وشتّان بين وفـاء هذا وإخلاف ذاك، إلاّ أنـّهما يتـفقان في أن يرتكبا كل مجازفة من شأنها أن تجلب المصلحة على حساب المبدأ والأخلاق والدين.
ولم يطل استنفار معاوية حتّى وجد عنده عساكره تجتمع إليه وتستجيب لنداءه، وتختلف رايات القبائل الشامية، لتدقّ طبول الحرب على الحسن بن عليّ(عليهما السلام) طمعاً في الغلبة وبأخذ الثأر ليوم صفين، أو يوم الدار الذي جعل منه معاوية «قنطرة» يعبر عليه إلى صفين، إلى حيث الدسائس التي اتقنها ابن أبي سفيان كلما ضاقت عليه منافذ الحرب واللقاء.
_____________
(1) الأغاني : 69، وشرح النهج لابن أبي الحديد: 16/ 229.
معاوية يستنفر
- الزيارات: 2913