• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

ويستنفر الحسن (عليه السلام)

وتتقدّم أخبار الجيش الشامي قبيل وصوله تنتشر في أرجاء الكوفة، لتملأها ضجيجاً في همس حذر يكاد يحبس أنفاس القوم... وتدوّي أنباء العساكر التي قاربت جسر منبج، لتخيم على أهل الكوفة حالة ذعر مشوب بسكون، وتزلزل يستحكم أطراف الكوفة المترامية بقبائلها، المكتظّة بآرائها، المختلفة بفلسفاتها وأهوائها، ولم يقرّ لها قرار بعد وجل عظيم من مستقبل يحمل معه ذكريات الماضي الدامي، لتجد نفسها وسط المسجد الكوفي بعد أن نادى المنادي «الصلاة جامعة»، فاجتمعوا بتثاقل لم يدع معه فطنة الرأي أن تستحضرهم في موقفهم هذا، وكأنّ المشهد يخطف أبصارهم فلا يكادون يثبون إلى رُشد المستجيب الذي بايع بالأمس بيعة الحرب وبيعة السلم..
سبحان الله.... ما لهم والحسن بن عليّ(عليه السلام) بعث حجر بن عدي ليأمر العمّال بالتهيؤ للمسير..
ما لهؤلاء والجيش الشامي يلوّح براياته المتكاثرة وحوافرُ الخيل وطبول الحرب تتناغم، لتنشد اُنشودة الطاعة للأمير ببلادة اعتادها الشاميون من قبل.
الكوفيون أهل بصيرة من الأمر، والشاميون رعاع لا يهتدون إلى سبيل، وهم آلة حرب يسيّرها ابن حرب كيف شاء وأنّى يشاء... وكأنها لعنة البلادة طغت على هؤلاء السذّج من أهل الشام، ولعنة الخذلان تلاحق هؤلاء المتشدّقين من أهل الكوفة.... والحسن ابن عليّ(عليهما السلام) الآن بين محذورين، بل قُل بين فكّي محنة دامية.... بين سذاجة الشاميين وبين خذلان الكوفيين، أمّا الآن فلا مجال للتردد، فإنّ الحسن بن عليّ(عليهما السلام) على رغم ما يعانيه القائد الممتحن بدسائس العدو، والمخذول بنكوص الصديق، يرتقي منبر الكوفة بعد أن غاص مسجدها بأهلها ليلقي بيان الحرب، وخطاب التعبئة وإعلان النفير.
الحسن بن عليّ(عليهما السلام) يرمق الناس بنظرةٍ تحكي معها ملاحم من الطموح، وقسطاً من التوجس الذي سيرته من أبيه الشهيد..
يقف الحسن بن عليّ(عليهما السلام) متطاولاً بتطاول حقّه المشروع ليطالبهم بالوفاء ببيعة الحرب، فاليوم يمتحن العدو من الصديق... وليُميّز الصادق من الكاذب... وليعرف هؤلاء بهؤلاء، فإنّ مواقف البعضِ تنكشف بمواقف الآخرين..
يتهامس الناس بخفاء مصحوبٍ بضجيج، فربَّ رأي غلب على رأي، أو موقف يُنازع موقفا، أو احتمال يرجّحه بعض ويخطّئه آخرون....
إذن همسات تتعالى، ثم تخفت بصوت يهزّ أرجاء المسجد وتزلزلُ القلوب.... إنّه صوت الحسن بن عليّ(عليهما السلام) يُعيد صوت أبيه بجهوريته المعروفة وبلاغته المشهودة:
بعد أن حمد الله وأثنى عليه قال:
أمّا بعد، فإنّ الله كتب الجهاد على خلقه وسمّاه كرهاً، ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون، إلاّ بالصبر على ما تكرهون، إنه بلغني أنّ معاوية بلغه أنّا كنّا أزمعنا على المسير إليه، فتحرك لذلك، فاخرجوا ـ رحمكم الله ـ إلى معسكركم بالنخيلة حتّى ننظر وتنظروا ونرى وتروا(1).
أجل، إنّه كرهٌ يا ابن رسول الله لما قرأت في وجوه أصحابك من التثاقل، والعزم على الاعتذار، فإنهم أخلدوا إلى الأرض وكادت كلماتك تخطف أبصارهم ... إنه الموت... الموت الذي استبعدوا اللقاء به بعد مفارقتهم لأبيك أمير المؤمنين... وأنت يا سبط النبيّ (صلى الله عليه و آله وسلم) وابن عليّ(عليه السلام) تذيقهم مرارة الموت وتجرّعهم كأس الصبر.. وقد علمت سيدي أنّ قومك ذاقوا حلاوة القعود وتجرّعوا كأس الخذلان والنكوص..
هكذا منذ زمن أبيك، فقد أذاقوه مرارة التمرّد ومعاذير التردّد، وأحبّوا العافية على الحرب. ولست يا سيدي إلاّ ابن أبيك في كل شيء: في الحرب، في السلم، في العدو، في الصديق، في المحنة، في الرخاء...، حتّى منبرك هو منبر أبيك في مسجدك في كوفتك، وفي كل ما أراده أبوك تريده وتطمح إليه: كلمة لا إله إلاّ الله تدوّي في أرجاء المعمورة ليشهدها العالم كله، فالكل يعلن على مآذنه الشاهقة كلمة لا إله إلاّ الله، والكل يرتّل القرآن ترتيلاً، والكل يستنشق عبير رسالة جدّك، لتبعث من شمسها خيـوط المحبة في اُفق السلام، هكذا أردتم أنت والسيدُ أبوك كما أراد جدّك المقهور بعصبية الجاهلية التي لم تمهله لتسمع قرآنه وهو يتلوه على العالم كله حتّى ملأته صخباً وضجيجاً، حتّى اُولئك الطلقاء الذين كادوا لجدّك (صلى الله عليه و آله وسلم) وعلى رأسهم طليق النبيّ، ليكيد ولده بكيد أبيه يوم دعا لجدك أبو سفيان أهل مكة بالنفور إلى بدر القتال، فإنّ عير قريش غلبها محمّد (صلى الله عليه و آله وسلم) الذي سيغلب على قبيلتكم ووثنيتكم، فلتقاتله نزعتكم الجاهلية التي سيرثها معاوية البار لعصبيته وقبيلته فإنه الحريص على ثارات بدر والأحزاب، أن يعيدها جذعة تنازع محمّداً النبيّ (صلى الله عليه و آله وسلم) في ولده الحسن(عليه السلام) ذلك الممتحن كما امتحن من قبل جدّه وأبيه.
فبأبي أنت من إمامٍ ممتحن وقائد مقهور، فما الذي ستسمعه من هؤلاء غير «السكوت» ؟ أجل والنكوص، بل الخذلان!
قال ابن أبي الحديد: فسكتوا فما تكلّم منهم أحد، ولا أجابه بحرف، قال: فلمّا رأى ذلك عدي بن حاتم قام فقال: أنا ابن حاتم! سبحان الله! ما أقبح هذا المقام! ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم! أين خطباء مُضر؟ اين المسلمون ؟ أين الخواضون من أهل المصر الذين ألسنتهم كالمخاريـق(2)  في الدعـة، فإذا جَـدّ الجِـد فروّاغـون كالثعالب، أما تخافون مقت الله ولا عيبها وعارها.
ثّم استقبل الحسن بوجهه فقال: أصاب الله بك المراشد، وجنّبك المكاره، ووفّقك لما يُحمد ورده وصدره، قد سمعنا مقالتك، وانتهينا إلى أمرك، وسمعنا لك وأطعناك فيما قلت وما رأيت، وهذا وجهي إلى معسكري، فمن أحب أن يوافيني فليوافه.
وقام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، ومعقل بن قيس الرياحي، وزياد بن صعصعة التيمي، فأنّبوا الناس ولاموهم وحرّضوهم، و كلّموا الحسن(عليه السلام) بمثل كلام عدي بن حاتم في الإجابة والقبول، فقال لهم الحسن(عليه السلام): صدقتم رحمكم الله! ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والقبول والمودّة الصحيحة، فجزاكم الله خيراً، ثم نزل(3) .
____________________
(1) مقاتل الطالبيين: 69، شرح النهج: 16/ 229.
(2) المخاريق: ما يضرب به من خرقة وغير ذلك.
(3) شرح النهج: 16/ 38.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page