• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

المهادنة وليس الصلح

دعنا نعترف الآن بكل إجلال للقرار الشجاع الذي اتخذه الإمام(عليه السلام) في تطويق الأزمة التي تكاد أن تقتلع كل المبادئ وتسحق كل القيم...
دعنا أن نقف بكل خشوع لمبادرة الإمام(عليه السلام) التي أوقفت نزيف الدم.
دعنا أن نهتف لتلك العظمة... للحكمة... بكل ما من شأنه أن يسعى لإعادة كرامة الإنسانية المهدورة بالتسابق على المصالح الشخصية... الاعتبارات... الحيثيات، ولكل ما من شأنه أن يوقظ الضمير الإنساني ليحيله إلى رافد من روافد العطاء....
ثم دعنا أن نتصوّر الحسن بن عليّ(عليهما السلام) وقد أصرّ على الحرب ومواصلة القتال وهو في خضمّ هذه الأحداث..
ماذا لو لم يتخذ الإمام(عليه السلام) خطوة السلم وقرار الهدنة ؟
ماذا لو استمر الإمام على قرار المناجزة؟ إنّه بالتأكيد ستحدث الكارثة، وسيحدث ما لم يكن بالحسبان حدوثه... وفي تصوّرنا لو أنّ الإمام أصرّ على الحرب، فسيحدث ما يمكن وقوعه عاجلاً:
أولاً: التمرّد العام الذي سيُحدثه قرار الرفض والانصياع لمبادرة المهادنة؛ فالكثرة العظيمة استسلمت لطلب الصلح من قبل معاوية، بل هتفت بالبقاء واختيار العافية على الحرب، والموادعة على القتال، والمهادنة على المناجزة، فما الذي يفعله الإمام(عليه السلام) وهو في خضمّ معارضة عنيفة للحرب؟
وما الذي تراه أن يتخذه من قرار وهو يعيش حالة الخذلان من قبل أصحابه؟
ثانياً: لا يسع اُولئك المتخاذلون إلاّ أن يُسلّموا الإمام(عليه السلام)  إلى معاوية ويوثقوه دون أن يقدر أحد من دفع ما ألمّ بالإمام من خذلان وغدر وخيانة، وإذا سَلَّمَ الإمام أصحابه إلى معاوية، فعند ذاك «سيمنّ» معاوية على الإمام «بالعفو» و«الاطلاق»، وسيدال الأمر من عفو أبناء الطلقاء والمنّ على أبناء الأنبياء، عندها ستتغير كل معادلات الحقائق وسيظهر معاوية بشخصية الصلاح والتقوى والعدل والإحسان التي يصوّرها صناعو السياسة ومرتزقة السلطان.
ثالثاً: وإذا لم يتمكَّن هؤلاء من أسر الإمام(عليه السلام) فإنّ إمكانية اغتياله واردةٌ جداً، وبذلك سيكون الإمام(عليه السلام) قد صُفّي على يد أصحابه، وسيُطعن على الإمام(عليه السلام) أنّ شيعته هم الذين غدروا به وقتلوه، وسيكون ذلك حجّة لدى الأعداء في الطعن على شيعة الإمام(عليه السلام) ومحاولة تسفيه شيعة أهل البيت(عليهم السلام) وإظهار الأعداء بمظهر الحريص عليهم دون شيعتهم كما يُدّعى الآن وبكل جرأة وسخرية.
رابعاً: سيسجّل التاريخ مكرمة لمعاوية وقد طلب «وقف إراقة الدماء» و«حرصه» المزيّف على وحدة المسلمين، وبالمقابل سينعى التاريخ على الإمام الحسن تشدّده حيال موقفه من الحرب وإصراره على القتال.
إذن... دعنا أن نلوّح بشارة النصر للإمام الذي اختزل في قراره ملاحم التضحية من أجل المبدأ، ذلك النصر الذي حطّم اُسطورة حلم معاوية، وهدنة السلام التي سحقت معها محاولات التزييف.
أجل، إنّها الهدنة وليس الصلح... ففرقٌ بين الصلح والهدنة... أما الصلح بمعنى التسالم والتصالح، أي أن يُصلح الطرفين أمراً أفسده النزاع أو الحرب والقتال. وعلى هذا معاجم اللغة حيث الصلح بمعنى تصالح القوم بينهم، والصلاح نقيض الفساد والإصلاح نقيض الإفساد(1).
فالصلح؛ إصلاح ما أفسده التنازع، وهذا لعمري لا ينطبق على ما جرى بين الإمام الحسن(عليه السلام) ومعاوية، فأيّ إصلاح هو تنازل الخليفة الشرعي عن الأمر وتسليمه إلى رجلٍ لم يقرّ له المسلمون بذلك.
وإذا كان الأمر كذلك فأيّ إصلاح هو، وتراث رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) ينتهبه أهل القوّة، وينزو عليه أهل المكر والابتزاز؟!.
وهذا ما يراه المسلمون من أنّ ذلك لا يعدو عن الانتزاء على خلافة رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) وسلبها، وقد تنازل الحسن(عليه السلام) عن الأمر حقناً لدماء المسلمين.
قال اليعقوبي: وأحضر - أي معاوية - الناس لبيعته، وكان الرجل يحضر فيقول: والله يامعاوية، إنّي لاُبايعك وإنّي لكاره لك، فيقول: بايع، فإنّ الله قد جعل في المكروه خيراً كثيراً، ويأبى الآخر فيقول: أعوذ بالله من شرّ نفسك! وأتاه قيس بن سعد بن عبادة فقال: بايع قيس، قال: إن كنت لأكره مثل هذا اليوم يامعاوية، فقال له : مه رحمك الله! فقال: لقد حرصت أن اُفرّق بين روحك وجسدك قبل ذلك فأبى الله يابن أبي سفيان إلاّ ما أحبّ، قال: فلا يردُّ أمر الله. قال: فأقبل قيس على الناس بوجهه، فقال:
يا معشر الناس لقد اعتضتم الشرّ من الخير، واستبدلتم الذلّ من العزّ، والكفر من الإيمان، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين وسيد المسلمين وابن عمّ رسول ربّ العالمين، وقد وليكم الطليق بن الطليق يسومكم الخسف، ويسير فيكم بالعسف، فكيف تجهل ذلك أنفسكم، أم طبع الله على قلوبكم، وأنتم لاتعقلون؟
فجثا معاوية على ركبتيه ثمّ أخذ بيده ـ أي بيد قيس بن سعد ـ وقال: أقسمتُ عليك، ثمّ صفّق على كفّه، ونادى الناس: بايع قيس. فقال: كذبتم والله ما بايعت ولم يبايع لمعاوية أحد إلاّ أخذ عليه الأيمان، فكان أول من استخلف على بيعته، ودخل إليه سعد بن مالك، فقال: السلام عليك أيّها الملك، فغضب معاوية، فقال: ألا قلت السلام عليك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذاك إن كان أمّرناك إنّما أنت منتز(2).
ولا ننسَ ما صرّح به الإمام الحسن(عليه السلام) من أنّ معاوية لم يكن بالجدير في طلبه، ولا بالحصيف في تقديره، ولا بالعادل في أمره وقد أدّعى أمراً ليس له، وتقمّص رداءاً ليس إليه، زاعماً أنه أحقّ بالأمر كذباً وزوراً، فقال:
أيّها الناس، إنّ معاوية زعم أنّي رأيته للخلافة أهلاً ولم أر نفسي لها أهلاً، وكذب معاوية، أنا أولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان نبيّ الله.
فاُقسم بالله، لو أنّ الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني لأعطتهم السماء قطرها والأرض بركتها ولما طمعت فيها يامعاوية، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم): «ما ولّت اُمّة أمرها رجلاً قط وفيهم من هو أعلم منه، إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتّى يرجعوا إلى ملّة عبدة العجل» وقد ترك بنو إسرائيل هارون واعتكفوا على العجل وهم يعلمون أنّ هارون خليفة موسى، وقد تركت الاُمة عليّاً(عليه السلام) وقد سمعوا رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) يقول لعليّ: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير النبوة فلا نبيّ بعدي»(3).
فهل الصلح هذا الذي يعقبه تسافل الاُمة ونكوصها عند تولّي شرارها وتسلطهم على خيارها إصلاح دون إفساد، وخيرٌ بعد شرّ، ورحمة بعد نقمة؟!
هذه هي عواقب الاُمور التي أحالت الطلقاء وأولاد الطلقاء حكاماً يتسلطون على رقاب المسلمين، وقد قال عليّ(عليه السلام) مخاطباً معاوية : «واعلم أنّك من الطلقاء الذين لا تحلّ لهم الخلافة، ولاتعرض فيهم الشورى»(4)، فأيّ عذر يدعُ المرء أن يحمل ما وقع بين الإمام الحسن(عليه السلام) وبين معاوية إصلاحاً؟! وأيّ أمرٍ يُبيح لذوي مسكة عقلٍ أو فسحة رأي، ليعبّر عن يوم الحسن بن عليّ مع معاوية صلحاً؟!.
إذن فهي المهادنة دون الصلح... المهادنة التي تعقب الحرب، لتنتظر اليوم الذي تحلهُ من عقالها... فالهدنة هي الموادعة بين طرفي النزاع، والراحة بعد القتال، لتستقيم الاُمور لأحد الطرفين أو لكليهما معاً، ثُمّ يُنفق بعد هذا على ما هو في صالح الفريقين.
قال ابن منظور: الهدنة: انتقاض عزم الرجل بخيرٍ يأتيه، فيهدنه عمّا كان عليه، فيقال: انهدن عن ذلك، وهدنهُ خبرٌ أتاه هدناً شديداً.
ابن سيده: الهدنة والهدانة: المصالحة بعد الحرب، وأصل الهدنة السكون بعد الهيج، ويقال للصلح بعد القتال والموادعة بين المسلمين والكفار وبين كل متحاربين: هدنة، وربما جعلت للهدنة مدة معلومة، فإذا انقضت المدة عادوا إلى القتال.
وقال ابن الأعرابي: هدن عدوّه إذا كافّهُ(5).
وقال الزبيدي في تاج العروس: الهدنة: الدعة والسكون، هدونهُ بالقول دون الفعل(6).
وأكّد الزمخشري أنّ الهدنة غير الصلح، فاذا قيل صلحاً فهو من المجاز. قال: هدنت الرجل: سكنته وثبطته فهدن هدوناً، وهدنت صبيها بكلامها لينام، وهدنوه بالقول حتّى هدن. ومن المجاز: هادنهُ: صالحه مهادنة، وتهادنوا: تصالحوا وبينهم هدنة(7).
وفي معجم متن اللغة: الهدنة: المصالحة بعد الحرب، الموادعة على ترك القتال مدةً، وأصل المعنى السكون بعد الهيج والدعة والسكون(8).
هذه هي الهدنة، وتلك هي ظروف الحسن بن عليّ(عليهما السلام) وقد ألجأته إلى موادعة عدوّه ومهادنة مناوئيه.
وبعد هذا فعلى أيّها ينطبق المصطلح؟ وفي أيّها يصدق؟ صلح أم هدنة؟

الإمام(عليه السلام) يصرّح بأنّها الهدنة
إذن فهي الهدنة حدثت بين الإمام الحسن(عليه السلام) وبين معاوية وذلك بعد أن رأى نقض عزم جيشه ونكوص أصحابه وخذلان قومه، حتّى لم يبق للحسن بن عليّ(عليه السلام)  مندوحة الحرب غير مندوحة الهدنة، ولم يبق له غير خيار السلم بعد أن وجد في قومه ذلّ المستبيح لرغبة الموادعة على القتال، أو المستبيح لعرى الوثوق في بيعة السلم والموت، وبيعة الطاعة والمتابعة.
ما لنا نتردّد في مصطلح الهدنة ونصرّ على أنّه صلح وقد صرّح الإمام الحسن(عليه السلام) على أنّها الهدنة دون الصلح، فقال(عليه السلام)  مخاطباً أحد أصحابه: «يا أبا سعيد إذا كنت إماماً من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفّه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً(9) وقوله(عليه السلام) بعد الهدنة: أيّها الناس: إنّ الله هداكم بأوّلنا وحقن دماؤكم بآخرنا، وقد سالمت معاوية، وأن أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين(10).
ومعلوم أنّ الصلح مشعرٌ بالتوافق بين الطرفين والتراضي بين المتخاصمين.
أمّا الهدنة فهي فترة ترقّب بحذر ينتظرها المتخاصمان أو أحدهما لينقضّ على الآخر آخذاً بحقه مسترجعاً ما افتقده.
والهدنة ليست عقداً كما يظهر من تعريفها حتّى تكون لازمة للطرفين أو لأحدهما، أما الصلح فهو عقدٌ لا يُرجع عنه. وعلى فرض أنّ الهدنة عقد فهي لازمة متى ما وفى بها الطرفان، فاذا أنقضهما أحدهم انتقضت ولا لزوم فيها للطرفين.
وعلماؤنا علي ذلك
ولم يقتصر الأمر على ما صرّح به الإمام الحسن(عليه السلام)، بل كان ذلك مركوزاً لدى علمائنا رضوان الله عليهم من أنّ ما حدث بين الإمام(عليه السلام) وبين معاوية هي هدنة وليست صلح.
فقد ردّ الشيخ الصدوق& على من قال بأنّ الحسن(عليه السلام) قد بايع معاوية وصالحه على شروط، ردّ بأنّ ذلك الذي حدث هو المهادنة والمعاهدة وليس أكثر من ذلك.
قال الصدوق&: قد ذكر محمّد بن بحر الشيبانيt في كتابه المعروف بكتاب «الفروق بين الأباطيل والحقوق» في معنى موادعة الحسن بن عليّ بن أبي طالب لمعاوية، فذكر سؤال سائل عن تفسير حديث يوسف بن مازن الراسبي في هذا المعنى والجواب عنه، وهو الذي رواه أبو بكر محمّد بن الحسن بن اسحاق بن خزيمة النيسابوري، قال: حدّثنا أبو طالب زيد بن أحزم، قال: حدّثنا أبوداود، قال: حدّثنا القاسم بن الفضل، قال: حدثّنا يوسف بن مازن الراسبي، قال: بايع الحسن بن عليّ(عليه السلام) معاوية على أن لا يسمّيه أميرالمؤمنين، ولا يقيم عنده شهادة، وعلى أن لا يتعقب على شيعة علي(عليه السلام)  شيئاً، وعلى أن يفرّق في أولاد من قتل مع أبيه يوم الجمل، وأولاد من قتل مع أبيه بصفين ألف ألف درهم وأن يجعل ذلك من خراج دار أبجرد...
قال: وما ألطف حيلة الحسن(عليه السلام) في إسقاطه إيّاه عن إمرة المؤمنين، قال يوسف: فسمعت القاسم بن محيمة يقول: ما وفى معاوية للحسن بن عليّ(عليه السلام) بشيء عاهده عليه وإنّي قرأت كتاب الحسن(عليه السلام) إلى معاوية يعدّد عليه ذنوبه إليه وإلى شيعة عليّ(عليه السلام)  فبدأ بذكر عبد الله بن يحيى الحضرمي ومن قتلهم معه.
فنقول: والكلام للشيخ الصدوق: رحمك الله، إنّ ما قال يوسف بن مازن من أمر الحسن(عليه السلام)  ومعاوية عند أهل التمييز والتحصيل تسمى المهادنة والمعاهدة.
ثمّ يستدل، الشيخ الصدوق& على قولـه: ألا ترى كيف يقول: «ما وفى معاوية للحسن بن عليّ بشيء عاهده عليه وهادنه» ولم يقل بشيء بايعه عليه، والمبايعة على ما يدّعيه المدّعون على الشرائط التي ذكرناها، ثمّ لم يفِ بها لم يلزم الحسن(عليه السلام)(11).
هذه هي حيثيات الاتفاق بين الإمام الحسن(عليه السلام) وبين معاوية حيث لم نجد بُدّاً من الاطلاق عليه بأنّه هدنة وليس صلحاً، فإنّ الصلح هو التوافق والتراضي والقبول بين طرفي المصالحة ولم نجد ما يشير من قريب أو بعيد بأن هناك أدنى توافق دفع الإمام(عليه السلام) بايقاف القتال مهادناً معاوية حتّى يستتم الأمر ويستبين الرشد وينبلج الحقّ، ومتى كان الإمام(عليه السلام) راضياً بالمصالحة وقد أخرج جيشه وعسكر به في النخيلة؟ أما كان الأوفق لو أراد الإمام(عليه السلام) صلحاً من أول الأمر أن يبعث إلى معاوية وهو في الكوفة ليشترط عليه شروط الصلح ــ وأيم الحقّ - فإنّ معاوية أدهى من أن يتلكّأ في قبول ما يبعثه الإمام من صلح، أو يتردد في القبول أو يتوقف عن الاجابة، ألا ترى أنّ معاوية قد رضخ إلى ما أبداه الإمام(عليه السلام) من أول الأمر من شروطٍ عارضاً عليه أن يضع كل ما يريد، مرغّباً إيّاه بأموال العراق وأنّ الأمر له من بعده قائلاً:
«ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغاً ما بلغ تحمله إلى حيث أحببت، ولك خراج أي كور العراق شئت، معونة لك على نفقتك، يجبيها لك أمينك ويحملها إليك في كل سنة، ولك ألاّ يستولى عليك بالاساءة ولا تُقضى دونك الاُمور، ولا تُعصى في أمرٍ أردت به طاعة الله عزّوجلّ»(12).
هكذا كانت اُمنية معاوية في الصلح والتوافق، وهكذا آلت الاُمور إلى الهدنة والموادعة من قبل الإمام(عليه السلام) حقناً لدماء أصحابه حتّى حين، منتزعاً حقّه وحقّ أتباعه الميامين.
ولعلّ الأحنف بن قيس يصوّر لنا ما يضمره الإمام الحسن(عليه السلام) من معاودة القتال إذا سنحت له الفرصة وانصاع له الأمر وحالفته الظروف فينقضّ عليه بعزمة المثابر للقتال والمجالد في انتزاع الحقّ، ويديل الأمر الذي أعطاه إلى حقٍّ هو آخذه متى ما وجد من أصحابه عزمة الجد، فقال الأحنف مخاطباً معاوية:
وقد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة، ولم تظهر عليها قعصاً، ولكنك أعطيت الحسن بن عليّ(عليهما السلام) من عهود الله ما قد علمت، ليكون له الأمر من بعدك، فإن تفِ فـأنت أهل الوفاء، وإن تغدر تعلم والله أن وراء الحسن خيولاً جياداً، وأذرعاً شداداً، وسيوفاً حداداً، إن تدنُ له شبراً من غدر، تجد وراءه باعاً من نصر، وإنك تعلم أنّ أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك، ولا أبغضوا عليّاً وحسناً(عليهما السلام) منذ أحبوهما، وما نزل عليهم في ذلك غير من السماء، وإنّ السيوف التي شهروها عليك مع عليّ يوم صفين لعلى عواتقهم، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم(13).
ولم يكن كلام الأحنف غير قراءة الواقع بعينٍ لا يعشوها طمع معاوية ولا يُخْفِتْ بريقها تهديده، بل قد عرف الأحنف أنّ ما كان بين الحسن(عليه السلام) ومعاوية إنّما هو ذُبالة سلمٍ لا ترقى إلى صلح، وهدنة تحتبس معها أنفاس الحسن(عليه السلام) عن المصاولة إلى حين.

هى سنّة آبائه الصالحين
ولم يكن الحسن بن عليّ(عليهما السلام) بِِدعاً من آبائه الطاهرين، فقد كانوا يرون الموادعة مع أعدائهم حقناً لدماء أتباعهم، ويهادنون أهل حربهم ريثما يسترشد الأمر وتستبين الحجة، وتنقطع اللجاجة، وتقوى الهمم، وألا تنتقض عزائم قوم تديل الحقّ وتمحق الباطل... هكذا كان دأبهم(عليهم السلام)، وليكن ما نستعرضه من هدنتهم(عليهم السلام) أمرٌ يبعث على الاجلال بما أقدم عليه الإمام الحسن(عليه السلام) ليحقن دماء أتباعه وشيعته.

أولاً: صلح الحديبية
حيث رأى النبيّ (صلى الله عليه و آله وسلم) أنّ الهدنة أبقى له ولأصحابه، وأنّ القتال في تلك الحال هي أفنى لقومه وأتباعه، فأراد (صلى الله عليه و آله وسلم) أن ينتزع السلم، لينتزع بذلك العافية مهادناً قريش، لتكف أيديها عنه وعن أصحابه كيما يُتاح له (صلى الله عليه و آله وسلم) بعد حين القدرة على القتال، والقوّة على المناجزة والنزال، بعدما علم من قريش إصرارها على إفناء جيشه، وتوجّس من بعض قومه النكوص وعدم الثبات، ألا ترى (صلى الله عليه و آله وسلم) قد أخذ على أصحابه بيعة الرضوان بعدما رأى تزلزل بعضهم وإرجاف آخرين؟
كان جابر بن عبد الله يقول: إنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على أن لا نفرّ، فبايع رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) الناس(14).
لذا فقد هادن رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) المشركين أن تضع الحرب أوزارها بينهم عشر سنين، فلما أمكنه الله تعالى بعد سنتين دخل مكة فاتحاً منتصراً. وإلى ذلك أشار الزهري فيما فتح على رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) بسبب المهادنة وأطلق عليها هدنة وليس صلحاً فقال:
فما فُتح في الإسلام فتحٌ قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها وأمن الناس كلهم بعضهم بعضاً، فالتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة فلم يكلم أحد بالاسلام يعقل شيئاً إلاّ دخل فيه، فقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر(15).
هذه هي الهدنة بين رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) وبين قريش، فلو كان صلحاً لكان عقداً لا ينثني عنه ولا ينتقض فيه من أمر ذلك حتّى يتمّ الأجل وينقضي ما كان بينه (صلى الله عليه و آله وسلم) وبين قريش من شرط الوفاء من ميقات.
إلاّ أنّه (صلى الله عليه و آله وسلم) حيث رأى «أنّ قريش قد تظاهرت على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) من العهد والميثاق بما استحلّوا من خزاعة وكانوا في عقده وعهده»(16). فوجد من قومه عزمة القتال والنشاط على الحرب حتّى تقدم متجهزاً ليدخل مكة وليفتح الله له فتحاً مبيناً.
هذه هي الهدنة بينه (صلى الله عليه و آله وسلم) وبين قريش، هادن بعد أن رأى أنّ السلامة في المهادنة، والعافية في ترك القتال، فآثر الهدنة على الحرب والسلم على القتال... وهكذا هو حال سبطه المجتبى، فقد رأى ما رآه جدّه (صلى الله عليه و آله وسلم) من الموادعة والمهادنة حتّى يرى ما يمكّنه من إعادة حقّه ودفع غائلة أعدائه  وكيد الناكصين من أصحابه معاوداً القتال بعد أن غدر معاوية في شروطه ولم يف بذمتها شيئاً أبداً.

ثانياً: موادعة الحرب بين علىّ (عليه السلام) ومعاوية
كان عليّ(عليه السلام) قد رأى في الهدنة خيراً، وفي الكفّ عن القتال أبقى لأصحابه فيما إذا رجى منه ما يوافق حقه دون أن ينقصه شيء، فعمد إلى الموادعة بينه وبين معاوية وأرسل الرسل علّه ينصاع إلى الرشد ويخضع إلى الحقّ، فلما لم يجد معاوية إلاّ الغي والتمادي، عكف على مواصلة الحرب، والقتال.
قال الطبري:
فكان في أوّل شهر منها أي من سنة سبع وثلاثين وهو المحرّم موادعة الحرب بين عليّ(عليه السلام) ومعاوية، قد توادعا على ترك الحرب فيه إلى انقضائه طمعاً في الصلح، فذكر هشام بن محمّد عن أبي مخنف الأزدي قال: حدثني سعد أو المجاهد الطائي عن المُحِل بن خليفة الطائي قال: لمّا توادع عليّ ومعاوية يوم صفين اختلف فيما بينهما الرسل رجاء الصلح(17).

ثالثاً: وإن نسينا فلا ننسَ مافُتّ في عضد عليّ(عليه السلام)  يوم تعاودت حجة معاوية وانتقض عزم أصحابه، وبان فيهم الضعف عن القتال حين علِمَ أصحاب معاوية أنّ عليّاً(عليه السلام) عازم على افنائهم واجتثاثهم، فخارت قوى أصحابه وتضعضع جيشه وأمسك عن قبول القتال إلاّ بالحيلة والغدر.
قال الطبري:
فلمّا رأى عمرو بن العاص أنّ أمر أهل العراق قد اشتدّ وخاف في ذلك الهلاك، قال لمعاوية: هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلاّ اجتماعاً ولا يزيدهم إلاّ فرقة، قال: نعم، قال: نرفع المصاحف، ثم نقول ما فيها حكم بيننا وبينكم، فإن أبى بعضهم يقبلها، وجدت فيهم من يقول بلى ينبغي أن نقبل، فتكون فرقة تقع بينهم، وإن قالوا بلى نقبل ما فيها رفعنا هذا القتال عنّا وهذه الحرب إلى أجل أو إلى حين، فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا هذا كتاب الله عزّوجلّ بيننا وبينكم، مَنْ لثغور أهل الشام بعد أهل الشام، ومَنْ لثغور أهل العراق بعد أهل العراق، فلما رأى الناس المصاحف قد رفعت، قالوا نجيب إلى كتاب الله عزّوجلّ وننيب إليه.
قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب الأزدي عن أبيه: أنّ عليّاً(عليه السلام) قال: «عباد الله امضوا على حقّكم وصدقكم قتال عدوكم، فإن معاوية وعمرو بن العاص، وابن أبي معيط، وحبيب بن مسلمة، وابن أبي سرح، والضحاك ابن قيس ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن أنا أعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالاً وصحبتهم رجالاً، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال.
ويحكم، أنّهم ما رفعوها ثم لا يرفعونها ولايعلمون بما فيها، وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهناً ومكيدة، فقالوا له: ما يسعنا أن نُدعى إلى كتاب الله عزّوجلّ فنأبى أن نقبله، فقال لهم: فإنّي إنّما قاتلتهم ليدينوا بحكم هذا الكتاب، فإنّهم قد عصوا الله عزّوجلّ فيما أمرهم ونسوا عهده ونبذوا كتابه. فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيــد بن حصين الطـائي ثم السنبسـي
في عصابةٍ معهم من القرّاء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: يا عليّ أجب إلى كتاب الله عزّوجلّ إذا دعيت إليه وإلاّ ندفعك برمتك إلى القوم، أو نفعل كما فعلنا بابن عفان، إنّه علينا أن نعمل بما في كتاب الله عزّوجلّ فقبلناه، والله لَتَفْعَلَنَّ أو لنفعلها بك(18).
فلمّا رأى عليّ(عليه السلام) غدر القوم وانطلاء مكيدة عمرو بن العاص عليهم سلّم إلى الأمر وكفّ عن القتال، واخطر بالقبول وتوقيع معاهدة التحكيم بينه وبين معاوية، حقناً للدماء ودرءاً للفتنة وتفويتاً لفرصة الغدر والنكوص.
وهكذا فإنّ الهدنة ما لا بدّ منها، كما أن الحرب لا بدّ منه، وكما أن الحقّ يؤخذ بالقوة والقتال، فكذا يدفع بالكفّ والموادعة عن القتال. وقد عمد الحسن بن عليّ(عليهما السلام) إلى ما عملِهُ من قبل جدّه المصطفى (صلى الله عليه و آله وسلم) وأبوه عليّ المرتضى(عليه السلام) حيث فرضا القتال حينما رأيا أنّ الأمر يتطلّب ذلك، وأقرّا الموادعة حينما وجدا أنّ الأمر لايصلحه إلاّ ذلك.
إذن فهدنة الحسن بن عليّ(عليهما السلام) ليست بدعاً، فإنه (عليه السلام) رأى المصلحة في ذلك إبقاءً على دين الله من أن يفنى، وأن لا يُعبد الله على هذه الأرض إذا فنيت عصابة الحقّ واستحكمت فلول الباطل وقد أجاب(عليه السلام) بذلك حينما اعترض عليه أحدهم عند هدنته.
روى ابن عساكر في تاريخه، أنّ مالك بن ضمرة أتى الحسن ابن عليّ فقال: السلام عليك يا مسخّم وجوه المؤمنين، قال: «يامالك لا تقل ذلك، إنّي لمّا رأيت الناس تركوا ذلك إلاّ أهله خشيت أن تجتثّوا عن وجه الأرض، فأردت أن يكون للدين في الأرض ناعي».
فقال: بأبي أنت واُمي ذريّة بعضها من بعض(19).
______________________
(1) تهذيب اللغة للأزهري باب صلح: 4 / 234، مادة صلح.
(2) تاريخ اليعقوبي: 2/ 216.
(3) كتاب سليم بن قيس الهلالي: 2 /  938.
(4) صفين. نصر بن مزاحم: 29.
(5) لسان العرب لابن منظور: 15 / 57 مادة هدن.
(6) تاج العروس للزبيدي، باب هدن.
(7) أساس البلاغة للزمخشري، باب هدن.
(8) معجم متن اللغة لأحمد رضا، باب هدن.
(9) البحار: 44 /2.
(10) تاريخ اليعقوبي: 2/215.
(11) علل الشرائع: 1/249، عنه البحار: 44/2.
(12) مقاتل الطالبيين: 66.
(13) الإمامة والسياسة: 1 / 169.
(14) السيرة النبوية لابن هشام:  3/ 226. وهذا تعريض بعثمان بن عفان عند فراره يوم اُحد فقد روى ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج: فقال عليّ مخاطباً عثمان بن عفان: ألست الفار عن رسول الله| يوم اُحد. شرح نهج البلاغة: 9 / 6.
(15) تاريخ الطبري: 2 / 283.
(16) راجع المصدر السابق.
(17) تاريخ الطبري: 4/ 2.
(18) نفس المصدر.
(19) ترجمة الإمام الحسن× من تاريخ دمشق، تحقيق المحمودي: 203.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page